17 - 07 - 2024

 د.رسول مُحمد رسول: العرب يدمرون أنفُسَهم بأنفُسِهم بعد أن وقعوا في فخ التشَظِّي

 د.رسول مُحمد رسول: العرب يدمرون أنفُسَهم بأنفُسِهم بعد أن وقعوا في فخ التشَظِّي

تنوعت اهتماماته وإسهاماته؛ فكانت في حقول الفلسفة والفكر العربيوالغربي والإسلام السياسي والعلاقة بين الغرب والإسلام، وما بعد الاستشراق، ونقْد العقل الإصلاحي، والفِكر النقدي الأدبي، وكتابة الرواية، حتى أثرى المكتبة العربية بنحو خمسة وعشرين مؤلَفاً؛ منها عشرة كتُبٍ خصَّصها لمشروعه الفلسفي العقليمذ تسعينيات القرن الماضي حال صدور كتابه: "العقلنة.. السبيل المرجأ"،يحذو في ذلك حذو "المثقف الموسوعي" الذي اتسمت به دوماً حضارتنا وثقافتنا العربية والإسلامية؛ فالفارابي -مثلاً- جمع بين الموسيقى والطب والفلسفة والأدب، وغيره مِن الموسوعيين كُثْر.

المفكِّر أو سفير الفكرالعراقي -كما يُطلق عليه-والناقد والباحث والروائي والكاتبوالأكاديمي الحاصل على الدكتوراه في الفلسفة الألمانية/ د.رسول محمد رسول؛ التواضع سَمْته، والبساطة والبشاشة والود يغمرك بها حين تلقاه وكأنك تعرفه مُذ أمَدٍ؛ يحمل لوالده فضلاً وعرفاناً كبيرين؛ ذلك الذي دفعه للقراءة وأحاطه برعايةٍ أدبيةٍ وفكريةٍ وثقافيةٍ؛ حيث حرَّضه على التنوع في تحصيل المعارف؛ وكان يُلقنه دروس المنطق والفقه وسْط بيئةٍ كانت خير مُعينٍ له؛ ففي الكوفة -عند خاصِرة الفُرات- وُلِد؛ حيث العَبق الثقافي والحضاري، ومِن المتنبي وسِيرته تأثَّر وتلقى أول بيتٍ تحفظه ذاكرته بإيعازٍ مِن والده؛ فقد كان يسكن قريباً مِن الشارع الذي عاش فيه المتنبي، غادر بعدها إلى بغداد بلد العِلم والفلسفة حيث تخصَّص في الفلسفة الألمانية.

بدايةً أسأله عن علاقة الفلسفة وتوجُّهه للنَّقد الأدبي؟

الحقيقة أن السيميائية -عِلْم العلامات والدلالات في الحياة الاجتماعية وأنظمتها اللغوية- ينمِّي الحس النقدي بصورة تجعل الباحث ينظر للظاهرة الأدبية أو الاجتماعية بعمقٍ، وكما قال دوسوسير: "اللغة نظام مِن العلامات تعبر عن الأفكار"؛ والسيميائية خرجت مِن رحم الفلسفة، وقد اشتغل عليها فلاسفة كُثر؛ بِدءاً من الرواقيين–فلاسفة اليونان القدامى- وأفلاطون وأرسطو وأفلوطين وأوغسطس وجون بوانسو وجون لوك؛ وصولاً إلى تشارلز بيرس الذي قَعَّد "السيمياء" على أصولٍ فلسفيةٍ حقيقيةٍ؛ بعد أن قرأ"كانط" جيداً.. لذا فالبحث السيميائي بحثٌ فلسفي بامتياز.

هل يعاني النقد العربي من أزمة منهج؟

أين تلك الأزمة؟! النقد العربي يعيش اليوم أزهى عصوره، والعرب تعاملوابكل المناهج النقدية، والطلاب يدرسونها-جميعها- بالجامعات، وقد اشتغل النقاد العرب على النصوص الإبداعية الشعرية منها والسرديَّة والتشكيلية والجَمالية بمناهج التحليل والتركيب التقليدية والبنيوية والتفكيكية والسيميائية أي مناهج الحداثة ومابعد الحداثة، وتنوُّع الاشتغال بالمنهج لا يمثل أزمة، لكن -في اعتقادي- بل سينعكس ذلك على الحراك الثقافي والإبداعي، لأن العرب بصدد تغيير جذري في واقعهم السياسي.

بما أنك تعرضت للواقع السياسي؛ فكيف تراه في عالمنا العربي؟

ولأني عراقي أعاني آلاماً مُبرحة؛ وأرى أنَّ إسرائيل والسعودية قد أجهضا الربيع العربي في بلدي؛ حين طلبا مِن أمريكا الإبقاء على النظام البعثي خشية أن تقطف إيران تفاحة العراق الحر؛ لكن انظري ماذا حدث الأن بالعراق؟ الذات العربية -ياسيدتي- متعصبة؛طائفية؛ فاسدة حد النخاع؛ لديها موروث سرطاني هائج لا دواء له، صار الفرد العربي يشتري الحرية والتعددية والشرف والأمان بدمه! كم سالت دماء العراقيين بل وعلى امتداد العالم العربي كله من سوريا إلى ليبيا إلى تونس واليمن، كم دُمِّرتْ مدنٌ وقرى؟! نحن بصدد خارطة جديدة أبطالها تاجر سلاح وتاجر دين، ويبقى على العرب أن يريقوا مزيداً مِن دمائهم وأرواحهم لأجل الحرية والديمقراطية، بتْنا نمتلك كَمَّاً هائلاً مِن الهزائم والألام والجوع وفائضاً مِن الدماء والتخلف والفوضى،فظهرت أنماطٌ جديدة مِن القمع والذبح والتآمر؛ وانهارت قيادات مُعتَّقة وقيادات جديدة "غامضة" الخبرة والتجارب؛ فتمزقتْ وتشظَّتْ الذات العربية.

ما الرسالة التي تودُّ إيصالها من خلال مؤلفك "ما الفيلسوف"؟

الفلسفة ابنةٌ رائعةُ الحضور للمشترك الإنساني العقلانيبشرقه وغربه معاً، لذا فالفيلسوف ابنٌ بار للمعمورة الكونية، يبغي إعادة الاعتبار للعقل الإنساني كقيمة راقية تسمو على كل الرغبات التدميرية والعدوانية القديمةوترْك غريزة القتل والتجويع والفتك بالإنسان، وقد شرعتُ في بناء رؤية فلسفية عقلانية عام 1992 عقب حرب الخليج الثانية التي تعاون فيها العرب والغرب على تدمير وطني العراقي بصواريخ الموت وقنابل القتل السامة! فالفيلسوف لابد ألا يدع صور الخراب مِن حوله تمضي دون مساءلة تاريخانية أصيلة تنقذ الإنسانية مِن الاستسلام لنرجسية الفيلسوف التي تشعره بـ "الطاووسية"؛ حيث يكون مفتوناً بذاته لكونه يعرف أكثر من غيره، لابد أن يكون مُفكِّراً تاريخانياً أصيلاً؛ ينفتح على الوجود اليومي غير الاستهلاكي ليضيء دروبه.

دوماً تُردِّدُ أن المجتمعات العربية تدمِّر نفْسَها بنفسِها؛ فكيف ذلك؟ وهل بذلك ترفض نظرية المؤامرة؟

نعم تدمِّر نفسها بنفسها؛ ولا أقدِّم تبرأة للذمَّة لمن يدمِّر مجتمعاتنا من الخارج؛ انظري للدم والجثث بالشوارع، مَن يذبح مَن؟ ومَن يقتل بل ويُفخخ نفْسَه لقتل الآخر؟ أما عن الأيادي الخارجية؛ فكان علينا أن نحافظ على البيت، لكنَّا تماهينا مع عدوناولم نستنفذ طاقاتنا لصده، بل تُزهق أرواحنا بشكلٍ مجاني.

الحقيقة أنَّا نعيش عمومية الهزيمة، فإنساننا العربي مهزومٌ في العراق وليبيا وتونس وسوريا واليمن؛ والقائمة تطول، والهزيمة تلاحقنا مِن بلدٍ لبلدرغم بعض محاولات للتصدي، أما عن وعي الشعوب -وأسميه إعادة بناء الثقة بالنفس- فأقول دائماً إنْ لم نَعِ ذاتنا فلا أمَل ولا فائدة، فهناك طرَف خارجي نعم؛ وطرف داخلي يقاوم؛ لكنَّ الهزيمة لن ينقذها إلا العربي ذاته، أنا لا أجلد الذات ولكنعليَّ أن أنظر لذاتي كإنسان، فالآخر يريدنا أن نرى أنفسنا كهَويّات عرضية؛ كائنات مذهبية(سني/ شيعي)، مناطقية( شرقي/ غربي ) عرقية( كردي/ عربي/أمازيغي)لا يريد منَّا أن ننظر لأنفسنا بوصفنا "إنسان"، لأنِّي حال أكون إنساناً سأزيل كل الأقنعة الزائفة التي يريدني الآخر أن أتقنَّع بها،لذا فهو-بوعيٍ شديدٍ منه- يُصدِّر لنا مصطلح "الكراهية"فنتماهى فيه! كي يتم استدراج العقلية العربية إلى الانقسام والتفكيكنتيجة التجهيل و"التجويع" اللذين تتعرضان لهما.

ثم بعد الانقسام نتشظَّى، ونتبعَّض، وهناك برامج منظمة لزعزعتنا وابعادنا عن ذواتنا، مما جعلنا نعيش في نظام كراهية جماعي، حتى صارت أي جماعات عرقية أو مذهبية دينية تشتغل على وتر الكراهية؛ وكلها في النهاية تقيم مؤسساتٍ لتوليد وصناعة الكراهية، تلك الهجمة الشرسة التي تعرض لها عالمنا سياسياً وفكرياً -في رايي- دعمتها حرب الخليج الثانية التي كانت سبباً في تدمير كل شيء في العالم العربي، لعب السياسيون دورا تدميريا لافتاً، ولم نجد فقيهاً تنويرياً كـ "العز بن عبد السلام"، لكن صار لدينا أمواج مِن المتشددين والإرهابين يفسرون الدين على هوى أطماعهم؛ والدين مِن تفسيراتهم براء، ينمو الظلاميون عندما لا أعي أنِّي إنسان دون النظر للونٍ أو مذهبٍ أو عرق، فالنص القرآني والنبوي لا يفرقان بين أحدٍ وآخر تحت أي مُسمى.. لذا أحلم بعالَمٍ عربي يعمُّه السلام؛ بهويّات مُتعدِّدة.